ينطقُ بالكلماتِ تباعاً دون أن يبذل أي جُهد ودون أضطرار للتفكير ..... كانت جُملهُ مُرتبة ومُعبِرة ومُنضبطة قواعدياً ونحوياً لو كانت بالفصحى وخالية من الأخطاء ...... هكذا كان حالهُ في وطنهِ ..... ما أن خطت قدماهُ حدود وطنهِ وغطتهُ سماء أخرى ودخل بلاداً لا تعرِفُ عن لُغة وطنهِ شيئاً حتى عرِف التعب الذي يُسبِبهُ الكلام والضغط النفسي الذي يُوقِعهُ على صاحبهِ حين يحاول التكلم بلغة غريبة عنهُ ..... فهل حقاً هي سماء أُخرى ..... إِنّهُ يعرِفُ جيداً أن السماء هي واحدة لكُل الأرض ..... لكن شعُورهُ يقول إِنّهُ الآن تحت سماء أُخرى غير سماء وطنهِ ..... أصبحَ عليهِ الآن أن يُفكر فيما سيقول ويُرتب الجُمل في ذهنهِ....
كما إِنّهُ يبحثُ عن الكلمات وطريقة لفظِها ويُقلبُّ أوراق قاموسهِ أو في خبايا عقلهِ .... كما بات عليهِ أن يُفكِر في حروف الجر التي يجب أن يستعملها وفي مواقعها وفي زمن الأفعال ..... هل يجبُ أن يقول هذا في الماضي أم زمن الحاضر أم المُستقبل ..... الخ .... تفاصيلٌ كثيرة أتعبتهُ وتُتعِبهُ يومياً ...... لم يعرِف أن الكلام مُكلِف الى هذهِ الدرجة ...... إِنّهُ يُكلِفُ صاحِبهُ جُهداً وتعباً وطاقة نفسية وذهنية ...... أحياناً يضطرُ لحمل القاموس معهُ ليُساعده على قول مايُريد ..... ومع كُلِ هذا الجهد وهذهِ المُحاولات تبقى النتائج بسيطة جداً ....
فأبداً لن يُعبِر حقاً عما يُريد أن يقولهُ خصوصاً لو كانت هُناك تفاصيل ..... دائماً المواضيع تبقى مُعلّقة وناقصة وغير كاملة ..... والفكرة تبقى محدودة ....
كما إِنّهُ بدأ يشعرُ بالتعب في لسانهِ ..... إِنّهُ يشعرُ بلسانهِ في غيرِ محلهِ ..... فهو يتحدث بلُغة غريبة عنهُ منذُ الصباح وحتى المساء ..... وحين يحلُّ المساء وفي منزلهِ يشعُرُ بالأنهاك وثِقل اللسان من كل الجهد الذي بذلهُ في التحدث بهذهِ اللغة ..... وأحياناً يشعُرُ أن عقلهُ قد توقف عن العمل ويرفضُ أستقبال كلمات أخرى من هذهِ اللغة الغريبة عنهُ ....
إِنّهُ لا يُريد .... يشعُرُ بالأمتلاء وفاضَ بهِ الكيل .... هل سيأتي اليوم الذي سيتمكن فيهِ تماماً من هذهِ اللغة كما كان مُتمكنِاً من لغتهِ الأم ..... إِنّهُ يتمنى ...
بدأ يشعرُ بالحسد آزاء المُتمكنين منها وهذا شعورٌ
يُضحِكهُ كثيراً لأنّهُ لا يجبُ أن يكون ومع ذلك فهو موجود ..... لو كان يستطيع أن يتحدث هذهِ اللغة براحة ..... لو كانت هذهِ اللغة طوع لسانهِ وارادتهِ
لما تحسّر على كل مافي قلبهِ من كلمات وكل
مافي عقلهِ من أفكار ليقولها ويشرحها ولعبرّ عن رأيهِ بوضوح دون تعثُر وعجز .... كما كان يفعلُ ذلك في وطنهِ ..... حتى أَنّهُ قد يخسر عملهُ لهذا السبب فهو الآن يعمل بفترةٍ تجريبية بعدها يُحدّد المسؤولون موقفهم في الأتفاق معهُ على عقد عمل لسنة أو لسنتين ....أو الأعراض عنهُ وعلى الأرجح سيُعرِضون عن أبرام ذلك العقد معهُ .....
إِنّهُ في عملهِ يحاولُ أن يبذل أقصى جُهدهُ ..... لكن الملل بدأ يتسرب لمن معه ولمن يُشرِف على تدرِيبهِ .... ملّ المُشرف كلامهُ معهُ ببطء.... وبدلاً من أن يشرح المطلوب أستيعابهُ في مدةٍ ما...... يستغرقُ الأمر معهُ مدة مُضاعفة .... كما أن من يعملون الى جانبهِ يتحدثون فيما بينهم ويتمازحون وهو واقفٌ كالأبله بينهم حتى يفهمُ جملة تكونُ قد
فاتتهُ عشرة جُمل .......
وهم يعرفون ذلك ولهذا قللّوا من فُرص أضطرارهِ للكلام كما إِنّهم يحاولون قدر الأمكان عدم حشرهِ في
أحاديثهم الأُخرى بكل أتجاهاتها .... إِنّهم يحاولون قدر الأمكان عدم إِحراجهِ وجرحهِ ويكتفون بالأبتسام
لهُ ليعطوهُ الشعور بأنّهُ معهم يشارِكهم لحظاتهم ....
ليس هذا فقط فما يُضحِكهم لا يُضحِكهُ ولا يُعتبرُ مدعاة للضحك في وطنهِ ..... وهناك أمورٌ تُدمِعُ لها عيناه ضحِكاً وحين يديرُ عينيهِ صوبهم لا يرى سوى نظرات تساؤل وأستغراب وعلامات أستفهام
فيحاولُ أن يشرح لهم ما أضحكهُ فلا تهتزُ فيهم شعرة وليس هناك سوى أبتسامة مقتضبة وردٌ لطيف : اذنْ هكذا .... الآن فهمنا .....
الآن أصبح أكثر حذراً فصوتُ ضحكتهِ لا يُجلجل الا
أذا كان مع أبناء جلدتهِ لأنّهم يُشارِكونهُ أسباب ضحكهِ .... أما مع زُملائهِ الطيبين مواطني هذهِ الديار فليس سوى الأبتسامة البسيطة وأحياناً المُتصنّعة ..... هذا أفضل فهو لا يريدُ مزيداً من الأحراجات .... وليت الأمر يتوقف عند هذا فهو بدأ
يشعرُ بالغيرة من الحيوانات .... فلُغتها مُشتركة وعالمية ..... فالديكُ يصيحُ بنفس الصوت في أوربا
وأمريكا وآسيا وأفريقيا واستراليا ...... ويحذو حُذوهُ النمر والأسد وجميع الحيوانات الأخرى .....
هنيئاً لهم فلا غُربة تُلاحِقهم أينّما حلوا بسبب أختلاف اللغات ..... الديكُ يصيحُ يُشارِكه النمر والأسد والثور والزُرافة والماعز والأغنام والطيور والتماسيح ..... جميعها مزهوة بصوتها ولغتها وهو المسكين يشعُرُ بالخجل يأكُلهُ كُلَّما نطق جملةً ما وتمنى لو أنّهُ يبتلِعُ صوتهُ حتى يتحاشى الأضطرار والأحراج والأضطراب ..... لكن هيهات
عليهِ أن يقول ويقول فجِسرُ العبور نحو الأخرين للتواصل معهم هو اللغة أولاً حتى أخيراً .....